تجذبني وتذهلني دائماً عبارات وأقوال السيد المسيح في "العظة على الجبل" المذكورة بالإنجيل وخاصة ما دوّن بحسب متى البشير، والتي تشتهر بـالـ "طوبى" التي تعني "يا لسعادة وهناء"، وما يدهشني دائماً بأنه يُطوّب الحزانى والمساكين والجياع والعطاش الى البر وانقياء القلب وصانعي السلام والمضطهدين والمطرودين والمظلومين، واقتبس منها هذا القول المأثور الرائع: "طُوبَى لَكُمْ إِذَا عَيَّرُوكُمْ وَطَرَدُوكُمْ وَقَالُوا عَلَيْكُمْ كُلَّ كَلِمَةٍ شِرِّيرَةٍ، مِنْ أَجْلِي، كَاذِبِينَ.اِفْرَحُوا وَتَهَلَّلُوا، لأَنَّ أَجْرَكُمْ عَظِيمٌ فِي السَّمَاوَاتِ"، واضيف على هذا القول ما دوّنه متى في الاصحاح العاشر: "وَلاَ تَخَافُوا مِنَ الَّذِينَ يَقْتُلُونَ الْجَسَدَ وَلكِنَّ النَّفْسَ لاَ يَقْدِرُونَ أَنْ يَقْتُلُوهَا، بَلْ خَافُوا بِالْحَرِيِّ مِنَ الَّذِي يَقْدِرُ أَنْ يُهْلِكَ النَّفْسَ وَالْجَسَدَ كِلَيْهِمَا فِي جَهَنَّمَ."، لذا فدعوتنا المسيحية لا لنحيا الرخاء والرفاهية بل لنحيا في علاقة روحية حقيقية مع الله مهما كانت الظروف، والاصعب ما قيل بواسطة المسيح بأن في هذا العالم سيكون لنا ضيق ولكنه شجعنا بأنه غلب وسيغلب الى أبد الآبدين، لذا دعوتنا ههنا لا لنستمتع بسلام ورخاء أرضي عالمي بل بغنى نعمة الله وسلامه الحقيقي في قلوبنا والسلام والمصالحة مع الله، والتاريخ المسيحي منذ بدايته يشهد بكم الاضطهادات التي واجهت من تبعوا المسيح وآمنوا به من قلوبهم وما واجهوه من شدائد وضيقات لأجل إعلان الحق والبشارة بالإنجيل والاخبار السارة التي تشمل نعمة ومحبة و رحمة الله وما قدّموه من اعمال البر الحسنة التي يروها الناس فيمجدوا ابانا الذي في السماوات، فاختبارهم للحق وإعلان الله لهم وتبريرهم وتقديسهم وتغييرهم وتنويرهم وفرحهم وسلامهم لم يجعلهم في سكون وصمت وخوف بل دعاهم لمزيد من التضحية والجرأة لأجل خلاص النفوس وإعلان الحق لهم بالفعل قبل القول وبدون أي إجبار أو هجوم عقائدي أو شخصي ولكن إعلانهم للحق كان كافياً لمهاجمة وفضح وكشف كل زيف وباطل وفساد وخرافة وخداع فكري و روحي واخلاقي راسخ في اذهان البعيدين وغير المؤمنين، وكانوا مؤمنين بأن كما حرّرهم الحق من عبودية الشر والفساد والخداع سيحرّر الآخرين ايضاً ولكن لا يأتي هذا إلا بالكرازة ببشارة الإنجيل بمجاهرة ومجاوبتهم لكل من يسألهم عن سبب الرجاء والفرح والسلام والتغيير الذي فيهم بوداعة واتضاع ولطف، وكانت لأقوال المسيح صدى وتأثير على حياتهم وأعمالهم فلم يخشوا القتل او الاضطهاد والظلم والقهر والعنف والرجم والقسوة والقوانين الجائرة وكان دائماً شعارهم بأنه ينبغي أن يُطاع الله أكثر من الناس وخاصة في الكرازة بالإنجيل وإعلان محبة الله وفساد الإنسان وحاجة الكل للتوبة والإيمان لنوال الخلاص والغفران والحرية والمصالحة مع الله، فكانوا سفراء عن المسيح والله يعظ بهم، ولم يستخدموا سيفاً او رمحاً او سلاحاً او عصا او هجوماً لفظياً او فكرياً او أي شيطنة أو شخصنة مستفزة بل جاهروا بالحق بقوة وإرشاد روح الحق وبنور وصدق كلمة الحق، وكانت اسلحتهم تقتصر على الصلاة ودراسة كلمة الله والنمو الروحي اليومي في معرفة الله وقوة قيامته وشركة آلامه، فطوبى لمن ينظر الى نهاية سيرتهم ويتمثّل بهم غير مخوف من الطرد والإضطهاد وقتل الجسد لأجل البر بل بفرح قدّموا اجسادهم حتى الموت عن حب وتضحية لمن فداهم واعطاهم حياة ابدية مقتنعين ومؤمنين بأن البعيد وغير المؤمن غير قادر أن يهلك ويقتل الروح، لذا علينا أن نراجع إيماننا وننظر إلى دعوتنا وننتظر مجيء سيّدنا متمّمين خدمتنا ومحقّقين غرض وجودنا.
هذا لا يمنعنا من طاعة واحترام السلطات المرتّبة من الله رب وسيد الكل وملك الملوك ورب الارباب، ولكن ينبغي أن يُطاع الله أكثر من الناس، وهذا ايضاً لا يجعلنا متفاخرين ومنتفخين ومتكبّرين ومدّعين البطولة وحب الظهور وربح المال والشهرة والسلطة بل بإتضاع و وداعة وصمت وحكمة ولطف وهدوء نخدم الله ونفعل الخير مع الجميع ولا نرضي أنفسنا ولا نهتم بم هو لأنفسنا بل بما هو لآخرين ايضاً ممجّدين الله في اجسادنا وارواحنا التي هي لله، وهذا لا يجعلنا منفصلين عن العالم بشيزوفرينيا روحية لخدمة الله في الكنائس والانشطة الروحية فحسب فيجب علينا الانخراط والاندماج دون ذوبان في العالم ومجتمعنا فنعمل كمواطنين صالحين ومنضبطين ومتزنين خارج الصندوق وخارج اسوار دور العبادة اكثر من الداخل مع خدام الانجيل المتفرّغين المدعوين لخدمة الإنجيل بمختلف مواهبهم الروحية الممنوحة من الله، وهذا الفكر ايضاً واخيراً يجعلنا اكثر حكمة وفطنة وتعقّل في اختيار الوقت والفرصة والشخص وما نقوله ومانفعله وما نجاوب به، فرابح النفوس حكيم، فلا يؤذي أو يهاجم أحد بل بالذوق الصالح المهذّب يعمل ويجاوب الكل محترماً الرياسات والسلاطين وناجحاً في كل مايفعل.
ويلٌ لي إن كنت لا أُبشِّر!