منذ اسابيع ذهبت لأحد الصالونات الثقافية الاسبوعية المعروفة بمدينتي، وجذبني عنوان الصالون لذا ذهبت سريعاً قبل الميعاد للاستماع والنقاش عن معنى الحياة وشرُفت بالمشاركة بما لديّ من أفكار وبالانصات لما لدى كل المفكّرين والباحثين من أفكار غنية رائعة حول هذا الأمر، وفي نهاية الصالون والنقاش سؤل كل الحضور عن "مستقبل المعنى" والمتوقّع في القريب العاجل من مستقبل الانسان والدين والحضارة من نظرتنا الفلسفية والواقعية للحياة اليوم، وكانت نظرة الكثيرين نظرة تشاؤمية سلبية نتيجة لما يحدث من حروب وكوارث وأزمات حول العالم، وكانت نظرتي ورأيي هو ازدياد الشك واللا أدرية مع ازدياد الراديكالية والطائفية في ذات الوقت وانعدام الاخلاقيات والمباديء المُطلَقة وسهولة المساومة على أي حق وستُشَن حرب عنيفة فكرية في المقام الأول وقد تؤدي بعدها لحروب عنيفة قاسية بين الطوائف والأفكار والمذاهب ولا نعرف نهايتها.
وتذكّرت وقتها ما نُشر في جريدة Egyptian Gazette حول الأصولية والحروب الطائفية التي تتبناها داعش اليوم وقبلها القاعدة وطالبان وحركات إرهابية وتكفيرية ودينية كثيرة، وذكرت الجريدة بقلم أحد المفكّرين السياسيين بأن البطولة أصبحت مرض منتشر، وبأن النظرة الرؤيوية المستقبلية للعالم هي أحد سمات أديان كثيرة، وبأن السبب وراء انصياع وانخراط اطفال كثيرة في هذه الافكار والحركات كان بسبب اغراءهم وجذبهم بالمال والاسلحة والسيارات، وبأن الكثير من الذين انضموا كانت لهم خلفية مريرة سواء تكفيرهم من أديانهم ومذاهبهم أو بالاتيان بهم من بيوت مفكّكة خربة، ويرجع ذلك لاضطرابات ومشاكل نفسية عديدة تعرّضوا لها ويعانون منها، وقد نُطلِق على ما يحدث لهم قبل واثناء انضمامهم الى تلك الحركات الاصولية المسلحة بأنه غسيل مُخ!
الكثير منهم يؤمن بأنه له حقوق لاهوتية وشرعية على أجساد البنات والنساء، وكان هناك سؤال بالمقالة يتحدّث عن سبب إنضمام اكثر من 4000 أوروبي/أوروبية لداعش، فرد الكاتب بأن الملل والعزلة هو سبب انضمام الكثيرين اليوم من هؤلاء الشباب، و وسيلة الدعاية المنتشرة اليوم لدعوتهم للانضمام هي مواقع وسائل التواصل الاجتماعي، ولا ننسى الفتاوي الداعمة لهم بما يسمى "جهاد النكاح" التي يستغلونها لأسر النساء والبنات والزواج من مجاهدات واستغلالهم واغتصابهم جنسياً، ولا ننسى عوامل انتشار هذه الحركات من عنف وطائفية واضطراب واحتجاج اجتماعي، وتسييس الدين.
وتتميّز هذه الحركات اليوم بإسترجاع الماضي البعيد واستحضاره للحاضر دون التفكير في السمتقبل، وهذا فكر السلفية، والوسواس الديني بالاهتمام بالشكل الخارجي والمظهر وصورة التقوى بدلاً من قيم ومباديء وتعاليم الدين التي قد تُغيّر السلوك وما بداخل قلب كل إنسان إذا كانت صحيحة وحقيقية.
وخُتِم هذا المقال بدعوة الكاتب للنظر في التعليم والثقافة وتطويرهم وإعادة هيكلة منظومة الفكر والتربية والتعليم في الدول العربية والشرق أوسطية.
ولا ننسى بأن الدوجماطيقية الدينية، كما يقول هذا الكاتب، هي أول مرحلة في تكوين عقلية الإرهابي، بادعائه وزعمه بأنه يطبّق شرع الله ويُرضي الله وبأنه يمتلك وحده الحق المُطلق.
والآن بعد رؤية هذا المقال وهو واحد من مقالات وابحاث عديدة تُنشَر كل يوم للنظر وتحليل هذه الأفكار والحركات والمذاهب السلفية الطائفية المتطرّفة التي غايتها سيادة حكم وشرع الله و وسيلتها كل إنسان سواء بقتله أم باستعباده لقتل البشر الكُفار من وجهة نظره لكي يحكم الله على عباده ولكي تُطهَّر الأرض من الزنادقة والضالين، ولكن هل يفكّر المجاهد والداعشي؟ هل سمح لعقله أن يعمل ولو للحظات؟ ربما يكتشف استسلامه وخنوعه لأفكار قديمة منذ الأزل، ربما يدرك لا منطقية ادعاءاته وإيمانياته، و ربما يبحث بإخلاص وبساطة واتضاع عن الحقيقة والواقع والمنطق من هويّته وقيمته وغرض ومعنى حياته ورجاءه في الحياة وما بعد الموت فتتغيّر حياته ويستنير ذهنه.
لذا نحن بحاجة لنتذكّر بأن حركة داعش ليست بجديدة، فهي منذ الأزل، والعجيب بأنها بنفس الاغراض والافكار القديمة، فأول داعشي ذُكر في سفر البدايات التوراتي (التكوين) هو قايين من قتل في وقته رُبع العالم بقتله لأخيه هابيل بعدما ظنّ بأن الله يرضى بمجرّد المظهر والأعمال وبعدما اغتاظ من اخيه مقتنعاً ببرّه الذاتي وعدم حاجته لله لتطهيره والسيادة على حياته، و اتى بعده داعشيين كثيرين حتى نصل لأحدهم وهو شاول الطرسوسي بالعهد الجديد الذي كان يظن، كما قال المسيح عن الناس في الازمنة الاخيرة، بأنهم بقتلهم للبشر يقدّمون خدمة لله، ولكن وهو في طريقه لأحد العمليات الإرهابية على مؤمني دمشق ظهر له نور الله وأدركته النعمة المغيّرة وانفتحت اعين ايمانه وتطهّر قلبه وفكره من الشراسة والعنف والقتل والاغتصاب والأسر والسرقة والأصولية ليعرف محبة المسيح الحقيقية فيحب الكل من مهما اختلفت اديانهم ومذاهبهم واجناسهم والوانهم ويقدّم لهم خدمة المصالحة لكي يتصالحوا مع الله ويرجعوا عن خطاياهم ويتوبوا ويعترفوا بإثمهم ويعيشوا كسفراء عن المسيح ليعظ الله بهم ويطلبوا وينادوا عن المسيح: تصالحوا مع الله. فرأيناه يغفر ويقبل ويحتمل ويخدم بحب وتضحية محتملاً كل اضطهاد وعذاب وظلم لأجل نشر الحقيقة التي اختبرها وعاينها ورآها وغيّرته بكل سرور وعن اختيار حتى الموت دون أن يستخدم أي سلاح حي أو ابيض أو فكري أو حتى بلسانه الذي كان فقط يتكلّم بكلام النعمة الذي يعينه فيه روح الله الساكن فيه.
ولا ننسى أقوال المسيح عن الشيطان، و وصفه بأنه "كان قتالاً منذ البدء"، وهذه الحقيقة التي يجب أن ندركها اليوم، فالإرهاب والحروب والعنف والقتل الاغتصاب كلها أفكار ونوايا إبليسية ينجذب وينخدِع فيها العقول البشرية وتمتليء بها القلوب المظلمة بقوى الجاهلية.
ولكننا لا نخشى من يقتل الجسد، فهو ضعيف، لأنه لا يقدر أن يهلك النفس مع الجسد، فهو محدود ومُنخدِع، ولكن من يؤمن بالله المحبة الكاملة الذي احبّنا حتى تجسّد في المسيح يسوع ومات طوعاً لأجل فداءنا وخلاصنا سيغفر ويحتمل المضطهِدين، ويحب الاعداء، ويبارك اللاعنين، ويُحسِن إلى المبغضين، ويصلّي لأجل كل من يسيئون إليه ويطردونه، الطريق الوحيد الذي لا يفشل هو طريق المحبة، في النهاية ستنتصر المحبة وسيملُك الله ولكن هل يسود ويملُك على قلبك وفكرك اليوم؟ وهل تلحُظ تغيير سلوكي أخلاقي واضح في حياتك يوماً فيوماً؟
الله يُحبّك، فتعقّل واعرف هذه الحقيقة، وابحث عنه واقترب إليه، فإذا بحثت عنه ستعرف المحبة، وإذا عرفت الحق ستتحرّر، وإذا تحرّرت ستتغيّر، وإذا تغيّرت ستستنير.