رأيت
هاتفي يسجّل 12 مكالمة لم يُرَد عليها من ابنة عمّي ومن بعض الأقارب، فاتصلت بها
لمعرفة ما جرى، ثم ردّت عليّ مسرعة وسألتني عن معرفتي لما حدث،فقلت لها: ماذا حدث؟
لا أعلم شيء،فأجابتني: انتقل عمّك في صباح اليوم، فقلت لها: كيف حدث هذا؟ فهو صغير
السن وفي الخمسينات، وتأثّرت جداً وبكيت وحدي في البيت في غرفتي واعددت نفسي
للنزول للقاء أسرة عمّي لمساعدتهم في اجراءات الجنازة والعزاء والترتيبات الخاصة
بذلك، وكدت اتحدّث إلى نفسي كالمجنون بالبيت وأنا أعِد نفسي للنزول قائلاً: كيف
حدث هذا؟ لماذا يا رب؟ ماذا حدث لعمّي الغالي؟
ثم
نزلت فوراً لأسرة عمّي للوقوف جوارهم بهذه المحنة الصعبة، ولم اتمالك دموعي لحظة
منذ نزولي وحتى لقائي أسرته وأقاربي كلّهم، ثم قمنا بكتابة لافتة للصقها على محل
إقامته وعلى باب المحل الذي يعمل به ليلاً لإبلاغ الاصحاب والاقارب والمعارف
بميعاد الجنازة والعزاء،وتفاجئت بأن أصحابه فور معرفتهم بخبر رقاده قاموا بإلصاق
لافتات من تلقاء انفسهم وعلى نفقتهم الشخصية ليست فقط على محل إقامته وعمله، بل
على مداخل الشوارع الرئيسية والمقاهي الموجودة بشارعه وبعض المحلات الاخرى
المعروفة بالمنطقة، بل وأكثر من ذلك فهم أعدّوا وسائل للمواصلات على نفقتهم
الشخصية لأسرة الراقد واصحابه للذهاب إلى المدافن من الجنازة ثم إلى منازلهم دون
إعلامنا وإرباكنا بشيء، حتى تفاجئنا فور وصولنا قاعة الجنازة بحضور المئات في
جنازته من كل شوارع منطقته التي كان يسكن ويعمل فيها، وتعزّينا وتشجّعنا بحب الناس
له واعترافاتهم الشفهية والمكتوبة عن مدى تأثيره في حياتهم العملية والأسرية
والروحية والنفسية وظروفهم المعيشية،بل وتفاجئنا بحضور رجال الدولة معنا وشهادتهم
بحسن خلقه وسلوكه الراقي وأمانته معهم في تعاملهم معه في كثير من المجالات
والمواقع،وشجّعنا الله بكلمات رائعة معزيّة مقولة في محلها في جنازته عن الموت
الذي هو بالنسبة للمؤمن الحقيقي رقاد وانتقال ونوم وعن الرجاء الموضوع لنا في ربنا
يسوع المسيح وعن الحياة الأبدية التي ابتدأت بمعرفتنا لربنا ومخلّصنا يسوع المسيح
وتستمر إلى الأبد،وفرِحنا وتعزّينا بمحبة ومساندة كل من أتى وشارك وساعد ورتّب
وجهّز وآزر وعضّد واحتضن الاسرة والاقارب في هذا اليوم بل وفي كل ايام العزاء،
وعن
حياة عمّي اشهد واقول أمام الله بأنّي رأيت فيه إنساناً للكرامة نافعاً للسيّد
ومستعد لكل عمل صالِح،أعدّه الله لافتقاد اليتامى والأرامل والفقراء والمساكين،وارسله
الله لتشجيع وتعضيد وبناء ورعاية المؤمنين بكلماته البسيطة وابتسامته الرقيقة
وقلبه النقي الشفاف واستماعه الجيّد للرعيّة والأصحاب وقلّة كلامه وكثرة أفعاله،
وتفاجئنا بكم الأعمال الخفيّة التي فعلها لكل من حوله في احتياج أو مشكلة أو أزمة
أو ظلم أو إحباط،ففتح محلّه لاستقبال المُتعَبين والمساكين والاخوة الأفاضل
المؤمنين،وايضاً بيته لأسرته ولكل محتاج ومعوز ومن يعاني من أي مشكلة بلا محاباة
أو كبرياء بل بتضحية وتفاني وعطاء غير محدود وغير مشروط متشبّهاً بسيّده من علّمنا
قائلاً: مغبوط هو العطاء أكثر من الأخذ.وايضاً رأيته في حياته يدبّر بيته حسناً
وربى أولاده في مخافة الله وفي حب عمل الله وخدمته واستثمار مواهبهم وامكانياتهم
لمجد الله وفي بساطة القلب والاتضاع وإنكار الذات والمباديء الراقية السلوكية والاهتمام
بفعل الخير للجميع.
وقتها
سألت نفسي، لقد عشت كثيراً أعِظ و أُوصي وأُلقي خطابات ومحاضرات ونصائح وإرشادات
عن أخلاقيات وسلوكيات وتعاليم المسيح وكلمة الله، ولكنّي عشت القليل جداً منها في
حياتي، إقتصرت خدمتي الروحية على الخدمة المنبرية فقط دون النظر إلى نفسي بدقّة
وتمعّن، ودون فحص ذاتي قبل الآخرين، ودون الإهتمام باحتياجات الآخرين والإستماع
الجيّد لهم والتفاني والمثابرة في تسديد حاجاتهم الروحية والنفسية والاجتماعية
والمادية، عشت كثيراً في فصام بين المنبر والواقع العملي، إقتصرت خدمتي على لباقة
الحديث وبلاغة القول وجمال مواطن اللغة دون أن ينطبِع ذلك على حياتي العملية
والروحية ودون أن أكون قدوة حسنة للمؤمنين في الكلام والتصرّف والمحبّة والطهارة،
كنت ابحث فقط عن مجد الذات والتقييم البشري لي وإرضاء الناس وإشباع رغباتي، صارت
خدمتي كلامية فقط دون أن تكون عملية واقعية منطقية لمن يتعاملوا معي ويروني كل
يوم، فقدت الشهادة والتأثير والبركة والنمو لاعتمادي على ذاتي دون الإعتماد على
قوة الله وإرشاد وحكمة الروح القدس وفعالية الصلاة السريّة في حياتي اليومية، ولكن
لي درس رائع في انتقال احبائي وفي كلمة الله لي التي اعتدت على قراءتها للآخرين
دون أن أحفظها وأطبقها لنفسي أولاً،فعليّ أن اقبل أن اعمل مع الله بشروط ومباديء الله
ولمجد الله وبقوة وحكمة الله، فأنا وأنت عبيد بطّالون نغرس ونسقي ولكن الله وحده
هو الذي يُنمي ويغيّر، لذا علينا تصحيح مفاهيمنا في خدمته والحياة معه، والإتكال
عليه في كل شيء فبدونه لا نقدِر أن نفعل شيء، ولو عشنا نمارس مواهبنا ومهاراتنا
ومؤهلاتنا وقدراتنا بلا محبة فقد صرنا نحاساً يطن وصنجاً يرن ولن ننتفع شيء ولسنا
شيء، ولكن طريق المحبة لا يفشل أبداً، لذا علينا أن نعرِف الله معرفة جيّدة يومية،
ونفحص ونعظ أنفسنا كل يوم، ونعمل مع الله لنرضي ونمجّد الله، معتمدين فقط على قوة
وحكمة وإرشاد روح الله، منقادين إلى الضعفاء والمساكين والفقراء والمتضعين ولا
نُحابي الوجوه ولا نُرضي أنفسنا، ولنثابر ونركض في ميدان الجهاد بلا كسل وكلل واستسلام
لأي سقوط أو هزيمة، ونحمل في حربنا الروحية كلمة الله التي هي سيف الروح ونجاهد
بالصلاة وبمنطقة الحق ودرع البر وترس الإيمان وخوذة الخلاص وحاذين أرجلنا باستعداد
إنجيل السلام، مستعدين دائماً لمجاوبة كل من يسألنا عن سبب الرجاء الذي فينا
بوداعة وخوف، عالمين أن الديانة الطاهرة النقية عند الله هي هذه: إفتقاد اليتامى
والأرامل في ضيقاتهم، وحفظ الإنسان نفسه بلا دنس في العالم.
لذا تعلّمت من درس الموت فهو ربح لمن اتخذ المسيح حياته، فبه يحيا ويحيا فيه، فإن عشنا
للرب نعيش وإن متنا فللرب نموت، وإن عشنا وإن متنا فللرب نحنُ، ولا شيء يفصلنا عن
محبته أشدّة أم ضيق أم جوع أم خطر أم سيف، ففي هذه جميعها يعظم إنتصارنا بالذي
أحبّنا، فلنستعد للقاء إلهنا ونسلك بلياقة في سيرة مقدّسة وتقوى.
تعليقات
إرسال تعليق
شاركني تعليقك و رأيك فيما قرأت , رأيك مهم جدا I need your Comment!